فصل: باب تَحْرِيضِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قيام اللَّيْلِ وَالنَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب تَحْرِيضِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قيام اللَّيْلِ وَالنَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ

وَطَرَقَ الرسول صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ وَعَلِيًّا لَيْلا لِلصَّلاةِ - فيه‏:‏ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَيْقَظَ لَيْلَةً، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتْن‏؟‏ مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْخَزَائِنِ‏؟‏ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ‏؟‏ يَا رُبَّ كَاسِيَةٍ فِى الدُّنْيَا، عَارِيَةٍ فِى الآخِرَةِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَلِىَّ، أَنَّ الرَسُول صلى الله عليه وسلم طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَلا تُصَلِّيَانِ‏)‏‏؟‏ فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَىَّ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ، وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ، وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 54‏]‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيَدَعُ الْعَمَلَ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ، فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

- وقالت عَائِشَةَ‏:‏ صَلَّى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فِى الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى بِصَلاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ، فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَصْبَحَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏قَدْ رَأَيْتُ الَّذِى صَنَعْتُمْ، وَلَمْ يَمْنَعْنِى مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلا أَننِّى خَشِيتُ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْكُمْ وَذَلِكَ فِى رَمَضَانَ‏)‏‏.‏

وفى حديث أم سلمة، وحديث على فضل صلاة الليل وإنباه النائمين من الأهل والقرابة، قال الطبرى‏:‏ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أيقظ لها عليًا وبنته مرتين، حثا لهما على ذلك فى وقت جعله الله لخلقه سكنًا، لَمَّا علم عظيم ثواب الله عليها، وشرفت عنده منازل أصحابها، اختار لهم إحراز فضلها على السكون والدعة‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى حديث على رجوع المرء عما ندب إليه، إذا لم يوجب ذلك، وأنه ليس للإمام والعالم أن يشتد فى النوافل وقوله‏:‏ ‏(‏أنفسنا بيد الله‏)‏، فهو كلام صحيح قنع به النبى صلى الله عليه وسلم من العذر لترك النافلة، ولا يعذر بمثل هذا فى فريضة، وقوله‏:‏ ‏(‏أنفسنا بيد الله‏)‏، كقول بلال‏:‏ ‏(‏أخذ بنفسى الذى أخذ بنفسك‏)‏، وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏، أى أن نفس النائم ممسكة بيد الله، وأن التى فى اليقظة مرسلة إلى جسدها، غير خارجة من قدرة الله تعالى، فقنع بذلك النبى صلى الله عليه وسلم وانصرف‏.‏

وأما ضربه فخذه وقوله‏:‏ ‏(‏وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 54‏]‏، فإنه يدل أنه ظن أنه أحرجهم وندم على إنباههم، وكذلك لا يحرج الناس إذا حُضوا على النوافل، ولا يُضيق عليهم، وإنما يذكروا فى ذلك ويشار عليهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ماذا أنزل الليلة من الفتن‏؟‏ وماذا أنزل من الخزائن‏)‏‏؟‏ قال ذلك لما أعلمه الله من الوحى أنه يفتح على أمته من الغنى والخزائن، وعرفه أن الفتن مقرونة بها مخوفة على من فتحت عليه، ولذلك آثر كثير من السلف القلة على الغنى، خوف التعرض لفتنة المال، وقد استعاذ النبى صلى الله عليه وسلم من فتنة الغنى كما استعاذ من فتنة الفقر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏من يوقظ صواحب الحجرات‏)‏، يريد أزواجه صلى الله عليه وسلم، يعنى من يوقظهن للصلاة بالليل، وهذا يدل أن الصلاة تنجى من شر الفتن، ويُعتصم بها من المحن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏كاسية فى الدنيا عارية فى الآخرة‏)‏، يريد كاسية بالثياب الواصفة لأجسامهن لغير أزواجهن، ومن يحرم عليه النظر إلى ذلك منهن، وهن عاريات فى الحقيقة فربما عوقبت فى الآخرة بالتعرى الذى كانت إليه مائلة فى الدنيا، مباهية بحسنها، فعرف النبى صلى الله عليه وسلم أن الصلاة تعصم من شر ذلك، وقد فسر مالك حديث كاسيات عاريات أنهن لابسات رقيق الثياب، وقد يحتمل أن يريد صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏كاسية فى الدنيا عارية فى الآخرة‏)‏ النهى عن لباس رقيق الثياب واصفًا كان أو غير واصف خشية الفتنة، وسيأتى هذا المعنى مستوعبًا فى كتاب الفتن فى باب لا يأتى زمان إلا الذى بعده شر منه‏.‏

وأما حديث عائشة، فظاهره أن من الفرائض ما يفرض الله على العباد من أجل رغبتهم فيها وحرصهم عليها، والأصول ترد هذا التوهم، وذلك أن الله فرض على عباده الفرائض، وهو عالم بثقلها وشدتها عليهم، أراد محنتهم بذلك لتتم الحجة عليهم، فقال‏:‏ ‏(‏وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين‏}‏ ‏[‏البقرة 45‏]‏، وقال موسى لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء حين رده الله من خمسين صلاة إلى خمس صلوات‏:‏ ‏(‏راجع ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك‏)‏‏.‏

ويحتمل حديث عائشة، والله أعلم، معنيين‏:‏ أحدهما أنه يمكن أن يكون هذا القول منه صلى الله عليه وسلم فى وقت فرض قيام الليل عليه دون أمته، لقوله فى الحديث‏:‏ ‏(‏لم يمنعنى من الخروج إليكم إلا أننى خشيت أن تفرض عليكم‏)‏، فدل أنه كان فرضًا عليه وحده‏.‏

وقد روى عن ابن عباس أن قيام الليل كان فرضًا على النبى صلى الله عليه وسلم ذكره ابن الأدفوى، فيكون معنى قول عائشة‏:‏ ‏(‏إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل‏)‏، يعنى إن كان يدع إظهار عمله لأمته ودعاءهم إلى فعله معه، لا أنها أرادت أنه كان يدع العمل أصلاً، وقد فرضه الله تعالى عليه، أو ندبه إليه، لأنه كان أتقى أمته لله وأشدهم اجتهادًا، ألا ترى أنه لما اجتمع الناس من الليلة الثالثة، أو الرابعة لم يخرج إليهم، ولا شك أنه صلى حزبه تلك الليلة فى بيته‏.‏

فخشى إن خرج إليهم والتزموا معه صلاة الليل أن يسّوى الله تعالى بينهم وبينه فى حكمها، فيفرضها عليهم من أجل أنها فرض عليه، إذ المعهود فى الشريعة مساواة حال الإمام والمأموم فى الصلاة، فما كان منها فريضة فالإمام والمأموم فيها سواء، وكذلك ما كان منها سنة أو نافلة‏.‏

والمعنى الثانى هو أن يكون خشى من مواظبتهم على صلاة الليل معه أن يضعفوا عنها فيكون من تركها عاصيًا لله فى مخالفته لنبيه وترك اتباعه، متوعدًا بالعقاب على ذلك، لأن الله تعالى فرض اتباعه، فقال‏:‏ ‏(‏واتبعوه لعلكم تهتدون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 158‏]‏، وقال فى ترك اتباعه‏:‏ ‏(‏فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 63‏]‏، فخشى على تاركها أن يكون كتارك ما فرض الله عليه، لأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم كطاعة الله، وكان صلى الله عليه وسلم رفيقًا بالمؤمنين رحيمًا بهم‏.‏

وسيأتى فى باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنى فى كتاب الاعتصام زيادة فى هذا المعنى وبيانه، إن شاء الله تعالى‏.‏

وقال المهلب‏:‏ فى حديث عائشة أن قيام رمضان بإمام ومأمومين سنة، لأنه صلى الله عليه وسلم صلى بصلاته ناس ائتموا به، وهذا خلاف قول من أزرى فقال‏:‏ ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ عمر‏.‏

ولم يتق الله فى مقالته، ولا صدق، لأن الناس كانوا يصلون لأنفسهم أفذاذًا، وإنما فعل عمر التخفيف عنهم، فجمعهم على قارئ واحد يكفيهم القراءة ويفرغهم للتدبر‏.‏

وقد احتج قوم من الفقهاء بقعود النبى صلى الله عليه وسلم عن الخروج إلى أصحابه الليلة الثالثة، أو الرابعة، وقالوا‏:‏ إن صلاة رمضان فى البيت للمنفرد أفضل من صلاتها فى المسجد، منهم مالك، وأبو يوسف، والشافعى، وقال مالك‏:‏ كان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس، وأنا أفعل ذلك، وما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فى بيته‏.‏

وذكر ابن أبى شيبة، عن ابن عمر، وسالم، وعلقمة، والأسود، أنهم كانوا لا يقومون مع الناس فى رمضان‏.‏

وقال الحسن البصرى‏:‏ لأن تفوه بالقرآن أحب إليك من أن يفاه به عليك‏.‏

ومن الحجة لهم أيضًا حديث زيد بن ثابت‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم حين لم يخرج إليهم قال لهم‏:‏ ‏(‏إنى خشيت أن بفرض عليكم، فصلوا أيها الناس فى بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء فى بيته إلا المكتوبة‏)‏‏.‏

فأخبر أن التطوع فى البيت أفضل منه فى المسجد لاسيما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مسجده‏.‏

وخالفهم آخرون، فقالوا‏:‏ صلاتها فى الجماعة أفضل‏.‏

قال الليث‏:‏ لو أن الناس فى رمضان قاموا لأنفسهم وأهليهم حتى تترك المساجد، حتى لا يقوم فيها أحد لكان ينبغى أن يخرجوا من بيوتهم إلى المسجد حتى يقوموا فيه، لأن قيام الناس فى رمضان الأمر الذى لا ينبغى تركه، وهو مما سَنَّ عمر بن الخطاب للمسلمين وجمعهم عليه‏.‏

ذكر ابن أبى شيبة، عن عبد الله بن السائب، قال‏:‏ كنت أصلى بالناس فى رمضان، فبينا أنا أصلى إذ سمعت تكبير عمر على باب المسجد قدم معتمرًا، فدخل فصلى خلفى‏.‏

وكان ابن سيرين يصلى مع الجماعة، وكان طاوس يصلى لنفسه ويركع ويسجد معهم، وقال أحمد بن حنبل‏:‏ كان جابر يصليها فى جماعة‏.‏

وروى عن على، وابن مسعود مثل ذلك، وهو قول محمد بن عبد الحكم‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وممن قال إن الجماعة أفضل‏:‏ عيسى بن أبان، والمزنى، وبكار بن قتيبة، وأحمد بن أبى عمران، واحتج أحمد فى ذلك بحديث أبى ذر‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم خرج لما بقى من الشهر سبع فصلى بهم حتى مضى ثلث الليل، ثم لم يصل بنا السادسة، ثم خرج الليلة الخامسة، فصلى بنا حتى مضى شطر الليل، فقلنا‏:‏ يا رسول الله، لو نفلتنا، قال‏:‏ ‏(‏إن القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة‏)‏، ثم خرج الليلة السابعة، وخرجنا وخرج بأهله، حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، وهو السحور‏.‏

رواه ابن أبى شيبة، عن محمد بن فضيل، عن داود بن أبى هند، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرشى، عن جبير بن نفير، عن أبى ذر‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وكل من اختار التفرد، فينبغى أن يكون ذلك على أن لا ينقطع معه القيام فى المسجد، فأما الذى ينقطع معه القيام فى المسجد فلا‏.‏

قال‏:‏ وقد أجمعوا على أنه لا يجوز تعطيل المساجد عن قيام رمضان، فصار هذا القيام واجبًا على الكفاية فمن فعله كان أفضل ممن انفرد كالفروض التى على الكفاية‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ أما الذين لا يقدرون ولا يقوون على القيام، فالأفضل لهم حضورها ليسمعوا القرآن وتحصل لهم الصلاة ويقيموا السنة التى قد صارت عَلَمًا‏.‏

باب قِيَامِ اللَّيْلَ

قَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ قام النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَفَطَّرَ قَدَمَاهُ‏.‏

وَالْفُطُورُ‏:‏ الشُّقُوقُ، انْفَطَرَتْ‏:‏ انْشَقَّتْ‏.‏

- فيه‏:‏ الْمُغِيرَةَ، إِنْ كَانَ الرسُول صلى الله عليه وسلم لَيَقُومُ؛ أو لِيُصَلِّىَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ، أَوْ سَاقَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ‏:‏ ‏(‏أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أخذ الإنسان على نفسه بالشدة فى العبادة، وإن أضر ذلك ببدنه، وذلك له حلال، وله أن يأخذ بالرخصة ويكلف نفسه ما عفت له به وسمحت، إلا أن الأخذ بالشدة أفضل، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أفلا أكون عبدًا شكورًا‏)‏، فكيف من لم يعلم أنه استحق النار أم لا‏؟‏ فمن وفق للأخذ بالشدة فله فى النبى صلى الله عليه وسلم أفضل الأسوة‏.‏

وإنما ألزم الأنبياء والصالحون أنفسهم شدة الخوف، وإن كانوا قد أمنوا، لعلمهم بعظيم نعم الله عليهم، وأنه ابتدأهم بها قبل استحقاقها، فبذلوا مجهودهم فى شكره تعالى بأكبر مما افترض عليهم فاستقلوا ذلك‏.‏

ولهذا المعنى قال طلق بن حبيب‏:‏ إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، ونعمه أكثر من أن تحصى ولكن أصبحوا قانتين وأمسوا تائبين، وهذا كله مفهوم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يخشى الله من عباده العلماء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏‏.‏

باب مَنْ نَامَ عِنْدَ السَّحَرِ

- فيه‏:‏ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرِو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ‏:‏ ‏(‏أَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى اللَّهِ صَلاةُ دَاوُدَ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، كَانَ أَحَبَّ الْعَمَل إِلَى رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم الدَّائِمُ، قُلْتُ‏:‏ مَتَى كَانَ يَقُومُ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ مَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِى إِلا نَائِمًا، تَعْنِى النَّبِىَّ، صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا يدل أن دواد كان يجم نفسه بنوم أول الليل، ثم يقوم فى الوقت الذى ينادى فيه الله تعالى‏:‏ هل من سائل‏؟‏ هل من مستغفر‏؟‏ هل من تائب‏؟‏ ثم يستدرك من النوم ما يستريح فيه من نصب القيام فى بقية الليل‏.‏

وإنما صارت هذه الطريقة أحب إلى الله من أجل الأخذ بالرفق على النفوس التى يخشى منها السآمة والملل الذى هو سبب إلى ترك العبادة، والله يحب أن يديم فضله، ويوالى إحسانه أبدًا، وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن الله لا يمل حتى تملوا‏)‏‏.‏

يعنى أن الله لا يقطع المجازاة على العبادة حتى تقطعوا العمل‏.‏

فأخرج اللفظ المجازاة بلفظ الفعل، لأن الملل غير جائز على الله تعالى، ولا هو من صفاته‏.‏

وقول عائشة‏:‏ ‏(‏كان يقوم إذا سمع الصارخ‏)‏، فهو فى حدود ثلث الليل الآخر، ليتحرى وقت تنزل الله تعالى، ثم يرجع إلى الاضطجاع للراحة من نصب القيام، ولما يستقبله من طول قيام صلاة الصبح، فلذلك كان ينام عند السحر، وهذا كان يفعله صلى الله عليه وسلم فى الليالى الطوال، وفى غير شهر رمضان، لأنه قد ثبت عنه تأخير السحور على ما يأتى فى الباب بعد هذا، إن شاء الله‏.‏

باب مَنْ تَسَحَّرَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاةِ فَلَمْ يَنَمْ حَتَّى الصُّبْحَ

- فيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ تَسَحَّرَا، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ سَحُورِهِمَا، قَامَ نَبِىُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الصَّلاةِ، فَصَلَّيا قُلْت لأنَسٍ‏:‏ كَمْ كَانَ بَيْنَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَحُورِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِى الصَّلاة‏؟‏ ِ قَالَ‏:‏ كَقَدْرِ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً‏.‏

فى هذا الحديث تأخير السحور‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏كم كان بين فراغهما ودخولهما فى الصلاة‏)‏ يريد صلاة الصبح، وقد ترجم البخارى لهذا الحديث فى كتاب الصيام، باب قدر كم بين السحور وصلاة الصبح‏.‏

إلا أنه أول ما قام إليه ركعتا الفجر، لأنه حين ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ الفجر، وكان بين سحوره صلى الله عليه وسلم وصلاة الصبح قدر خمسين آية ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ تلك المدة التى تقدر بخمسين آية صلى ركعتى الفجر، ثم قعد ينتظر الصبح‏.‏

باب طُولِ الْقِيَامِ فِى صَلاةِ اللَّيْلِ

- فيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ، قَالَ‏:‏ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ، قُلْنَا‏:‏ وَمَا هَمَمْتَ بِهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَمَمْتُ أَنْ أَقْعُدَ وَأَذَرَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

- وفيه‏:‏ حُذَيْفَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَامَ لِلتَّهَجُّدِ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أن مخالفة الإمام أمر سوء كما قال ابن مسعود، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فليحذر الذين يخالفون أمره‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 63‏]‏ الآية، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم للذين صلوا خلفه قيامًا، وهو جالس‏:‏ ‏(‏إنما جعل الإمام ليؤتم به‏)‏، إلى قوله‏:‏ ‏(‏فإذا صلى جالسًا، فصلوا جلوسًا أجمعون‏)‏، فينبغى أن يكون ما خالف الإمام من أمر الصلاة وغيرها من سيئ الأعمال‏.‏

وفى حديث ابن مسعود دليل على طول القيام فى صلاة الليل، لأن ابن مسعود أخبر أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يزل قائمًا حتى همّ بالقعود، وهذا لا يكون إلا لطول القيام، لأن ابن مسعود كان جلدًا مقتديًا بالرسول محافظًا على ذلك‏.‏

وقد اختلف العلماء‏:‏ هل الأفضل فى صلاة التطوع طول القيام، أو كثرة الركوع والسجود، فذهبت طائفة إلى أن كثرة الركوع والسجود فيها أفضل، وروى عن أبى ذر‏:‏ أنه كان لا يطيل القيام ويكثر الركوع والسجود، فسئل عن ذلك، فقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من ركع ركعة وسجد سجدة رفعه الله بها درجة، وحطت عنه بها خطيئة‏)‏‏.‏

وروى عن ابن عمر، أنه رأى فتىً يصلى قد أطال صلاته، فلما انصرف قال‏:‏ من يعرف هذا‏؟‏ قال رجل‏:‏ أنا، قال عبد الله‏:‏ لو كنت أعرفه لأمرته أن يطيل الركوع والسجود، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إذا قام العبد يصلى أتى بذنوبه فجعلت على رأسه وعاتقيه، وكلما ركع وسجد تساقطت عنه‏)‏‏.‏

وقال يحيى بن رافع‏:‏ كان يقال‏:‏ لا تطل القراءة فى الصلاة، فيعرض لك الشيطان فيمنيك‏.‏

وقال آخرون‏:‏ طول القيام أفضل، واحتجوا بما روى وكيع، عن الأعمش، عن أبى سفيان، عن جابر، قال‏:‏ سئل رسول الله، أى الصلاة أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏طول القنوت‏)‏‏.‏

وهو قول إبراهيم، وأبى مجلز، والحسن البصرى‏.‏

وإليه ذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وقال أشهب‏:‏ هو أحب إلىّ لكثرة القراءة، على سعة ذلك كله‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وليس فى حديث أبى ذر ما يخالف هذا الحديث، لأنه قد يجوز أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من ركع لله ركعة وسجد سجدة رفعه الله بها درجة وحَطَّ عنه خطيئة‏)‏‏.‏

وإن زاد مع ذلك طول القيام كان أفضل، وكان ما يعطيهم الله من الثواب أكثر، هذا أَوْلى ما حُمل عليه معنى الحديث، لئلا يضاد الأحاديث الأُخر، وكذلك حديث ابن عمر ليس فيه تفضيل الركوع والسجود على طول القيام، وإنما فيه ما يعطاه المصلى على الركوع والسجود من حط الذنوب عنه، ولعله يعطى بطول القيام أفضل من ذلك، وحديث ابن مسعود يشهد بصحة هذا القول‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وأما حديث حذيفة فلا مدخل له فى هذا الباب، لأن شوص الفم بالسواك فى صلاة الليل لا يدل على طول الصلاة، ولا قصرها، كما لا يدل عليه قوله‏:‏ ‏(‏لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة‏)‏، أنه أراد طوال الصلوات دون القصار، وهذا الحديث يمكن أن يكون من غلط الناسخ، فكتب فى غير موضعه، وإن لم يكن كذلك فإن البخارى أعجلته المنية عن تهذيب كتابه وتصفحه، وله فيه مواضع مثل هذا تدل على أنه مات قبل تحرير الكتاب، والله أعلم‏.‏

وفيه‏:‏ أن السواك من الرغائب وهو من الفطرة، وقال أبو زيد‏:‏ الشوص‏:‏ الاستياك من سفل إلى علو، وبه سمى هذا الداء ‏(‏شَوْصَة‏)‏ لأنه ريح يرفع القلب عن موضعه‏.‏

وقال أبو حنيفة فى كتاب النيات‏:‏ شاص فاه بالسواك شوصًا، وماصه موصًا‏.‏

باب كَيْفَ صَلاةُ الليْلِ‏؟‏ وَكَمْ كَانَ الرسُول يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ‏؟‏

- فيه‏:‏ ابْن عُمَر،‏:‏ إنَّ رَجُلاً قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ صَلاةُ اللَّيْلِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ كَانَتْ صَلاةُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يَعْنِي بِاللَّيْلِ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، أن صَلاةِ النَّبِىّ بِاللَّيْلِ، سَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ سِوَى رَكْعَتِى الْفَجْرِ‏.‏

- وقالت أيضًا‏:‏ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْهَا الْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ‏.‏

وذهب أكثر العلماء إلى أن صلاته بالليل مثنى مثنى، على حديث ابن عمر، وقالوا‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏مثنى مثنى‏)‏ يفيد التسليم فى كل ركعتين ليفصل بينها وبين صلاة أربع، وإلا فلا يفيد هذا الكلام، لأنه على التقدير تكون صلاة الظهر والعصر والعشاء مثنى مثنى، فلما لم يقل لواحدة منها مثنى مثنى علم أن المثنى يقتضى الفصل بالسلام، وسأذكر اختلاف العلماء فى ذلك فى صلاة النهار، وهل هى مثنى مثنى فى بابه بعد هذا، إن شاء الله‏.‏

وأما عدد صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل، فإن الآثار اختلفت فى ذلك عن ابن عباس وعائشة، فروى أبو جمرة، عن ابن عباس‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يصلى ثلاث عشرة ركعة‏.‏

ورواه مالك، عن مخرمة بن سليمان، عن كريب، عن ابن عباس، أنه بات عند خالته ميمونة فذكر أنه صلى مع النبى صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة بالوتر‏.‏

فهذا خلاف ما روى مالك، عن مخرمة، عن كريب، ذكره النسائى، وروى شريك ابن أبى نمر، عن كريب، عن ابن عباس، أنه صلى مع النبى صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة‏.‏

وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله‏.‏

وذكر الطحاوى، عن على بن معبد، قال‏:‏ حدثنا شبابة بن سوار، حدثنا يونس بن أبى إسحاق، عن المنهال بن عمر، عن على بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، قال‏:‏ أمرنى العباس أن أبيت عند النبى صلى الله عليه وسلم وقدم إلىّ ألا تنام حتى تحفظ لى صلاته، قال‏:‏ فصليت معه إحدى عشرة ركعة بالوتر‏.‏

وأما اختلاف الآثار، عن عائشة أيضًا، فروى مسروق، والقاسم بن محمد، وأبو سلمة، عن عائشة‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى إحدى عشرة ركعة سوى ركعتى الفجر‏.‏

وروى عنها خلاف ذلك من حديث مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى من الليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلى إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين‏.‏

وكذلك روى عن زيد بن خالد الجهنى حين رمق صلاة النبى بالليل ثلاث عشرة ركعة بالوتر‏.‏

وقد أكثر الناس القول فى هذه الأحاديث، فقال بعضهم‏:‏ إن هذا الاختلاف جاء من قبل عائشة، وابن عباس، لأن رواة هذه الأحاديث الثقات الحفاظ، وكل ذلك قد عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدل على التوسعة فى ذلك، وأن صلاة الليل لا حدّ فيها لا يجوز تجاوزه إلى غيره وكلٌ سُنَّةٌ‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل جاء الاختلاف فيها من قبل الرواة، وأن الصحيح منها إحدى عشرة ركعة بالوتر‏.‏

قالوا‏:‏ وقد كشفت عائشة هذا المعنى ورفعت الإشكال فيه لقولها‏:‏ ‏(‏ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد فى رمضان ولا فى غيره على إحدى عشرة ركعة‏)‏، وهى أعلم الناس بأفعاله لشدة مراعاتها له، وهى أضبط لها من ابن عباس، لأنه إنما رمق صلاته مرةً حين بعثه العباس ليحفظ صلاته بالليل، وعائشة رقبت ذلك دهرها كله‏.‏

فما روى عنها مما خالف إحدى عشرة ركعة فهو وهم، ويحتمل الغلط فى ذلك أن يقع من أجل أنهم عدّوا ركعتى الفجر مع الإحدى عشرة ركعة، فتمت بذلك ثلاث عشرة ركعة‏.‏

وقد جاء هذا المعنى بيانًا فى بعض طرق الحديث، روى عبد الرزاق، عن الثورى، عن سلمة بن كهيل، عن كريب، عن ابن عباس، قال‏:‏ بت عند خالتى ميمونة، فقام الرسول صلى الله عليه وسلم يصلى، فتمطيت كراهية أن يرانى أراقبه، ثم قمت ففعلت مثل ما فعل فصلى فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة منها ركعتا الفجر، ثم نام حتى نفخ، فجاءه بلال فآذنه بالصلاة، فقام فصلى ولم يتوضأ‏.‏

وروى ابن وهب، عن ابن أبى ذئب، ويونس، وعمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، أخبرهم عن عروة، عن عائشة، قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة، ويسجد سجدة قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية، فإذا سكت المؤذن من أذان الفجر وتبين له الفجر ركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة‏.‏

فكل ما خالف هذا عن ابن عباس، وعائشة فهو وهم‏.‏

وقالوا‏:‏ ومما يدل على صحة هذا التأويل قول ابن مسعود للرجل الذى قال‏:‏ قرأت المفصّل فى ركعة فقال‏:‏ هذا كَهَذِّ الشِّعْر، لقد عرفت النظائر التى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهما، فذكر عشرين سورة من المفصل، سورتين فى كل ركعة‏.‏

فدل هذا أن حزبه بالليل عشر ركعات، ثم يوتر بواحدة، قاله المهلب، وأخوه عبد الله‏.‏

وقال آخرون‏:‏ الذى تأتلف عليه أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم فى الصلاة بالليل وينفى التعارض عنها، والله أعلم، أنه قد روى أبو هريرة، وعائشة، عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام من الليل يصلى افتتح صلاته بركعتين خفيفتين‏.‏

فمن جعل صلاته بالليل عشر ركعات والوتر واحدة لم يعتد بهاتين الركعتين فى صلاته، ومن عدها جعلها ثلاث عشرة ركعة سوى ركعتى الفجر‏.‏

وأما حديث أبى هريرة، فرواه ابن عيينة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إذا قام أحدكم من الليل يصلى فليصل ركعتين خفيفتين يفتتح بهما صلاته‏)‏‏.‏

وحديث عائشة رواه ابن أبى شيبة، عن هشيم، قال‏:‏ حدثنا أبو حرة، عن الحسن، عن سعد بن هشام، عن عائشة، عن النبى مثله‏.‏

وأما قول عائشة‏:‏ ‏(‏إن صلاة النبى صلى الله عليه وسلم بالليل سبع وتسع‏)‏ فقد روى الأسود عنها أنها قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى من الليل تسع ركعات، فلما أسن صلى سبع ركعات‏.‏

وروى عنها أنه كان يصلى بعد السبع ركعتين وهو جالس، وبعد التسع كذلك‏.‏

رواه معمر، عن قتادة، عن الحسن، قال‏:‏ أخبرنا سعد بن هشام، أنه سمع عائشة تقول‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بتسع ركعات وهو جالس، فلما ضعف أوتر بسبع ركعات وهو جالس‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما كان يوتر بتسع ركعات، والله أعلم، حين يفاجئه الفجر، وأما إذا اتَّسَع له الليل فما كان ينقص من عشر ركعات، للمطابقة التى بينها وبين الفرائض التى امتثلها صلى الله عليه وسلم فى نوافله وامتثلها فى الصلوات المسنونة‏.‏

باب قِيَامِ النَّبِىِّ بِاللَّيْلِ مِنْ نَوْمِهِ وَمَا نُسِخَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ

وَقَوْلُهُ تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏سَبْحًا طَوِيلا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 1- 7‏]‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏غفور رحيم‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏‏.‏

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ نَشَأَ‏:‏ قَامَ بِالْحَبَشِيَّةِ‏:‏ ‏(‏وِطَاءً ‏(‏قَالَ‏:‏ مُوَاطَأَةَ للْقُرْآنِ أَشَدُّ مُوَافَقَةً لِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقَلْبِهِ‏.‏‏)‏ لِيُوَاطِئُوا ‏(‏‏:‏ لِيُوَافِقُوا‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لا يَصُومَ مِنْهُ، وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لا يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ لا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلا رَأَيْتَهُ، وَلا نَائِمًا إِلا رَأَيْتَهُ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ذكر ابن الأدفوى أن للعلماء فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 2- 3‏]‏ أقوالا منها‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏(‏قُمِ اللَّيْلَ ‏(‏ليس معناه الفرض، يدل على ذلك أن بعده‏:‏ ‏(‏نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 3- 4‏]‏ وليس كذا يكون الفرض وإنما هو ندب وحض‏.‏

وقيل‏:‏ هو حتم‏.‏

والقول الثالث‏:‏ أن يكون حتمًا وفرضًا على النبى صلى الله عليه وسلم وحده، روى ذلك عن ابن عباس، وحجة هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لم يمنعنى من الخروج إليكم إلا أنى خشيت أن يفرض عليكم‏)‏ فهذا يبين أنه لم يكن فرضًا عليهم‏.‏

ويجوز أن يكون فرضًا عليه وعلى أمته، ثم نسخ بعد ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 2‏]‏ وعلى هذا جماعة من العلماء، وحجتهم ما روى النسائى، قال‏:‏ حدثنا إسماعيل بن مسعود، قال‏:‏ حدثنا خالد بن الحارث، قال‏:‏ حدثنا سعيد، عن قتادة، عن زرارة بن أبى أوفى، عن سعد بن هشام، قال‏:‏ قلت لعائشة‏:‏ أنبئينى عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت‏:‏ إن الله افترض القيام فى أول‏)‏ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 1‏]‏ على النبى وعلى أصحابه حتى انتفخت أقدامهم وأمسك الله خاتمتها اثنى عشر شهرًا، ثم نزل التخفيف فى آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعًا بعد أن كان فريضة، وقال النحاس‏:‏ هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وزيد بن أسلم وجماعة‏.‏

وقال الحسن، وابن سيرين‏:‏ صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو قدر حلب شاة‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ أحسبهما قالا ذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ سمعت بعض العلماء يقول‏:‏ إن الله، تعالى، أنزل فرضًا فى الصلاة قبل فرض الصلوات الخمس، فقال‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 1- 3‏]‏ الآية، ثم نسخ هذا بقوله‏:‏ ‏(‏فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ ‏(‏ثم احتمل قوله‏:‏ ‏(‏فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ ‏(‏أن يكون فرضًا ثابتًا، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 79‏]‏، فوجب طلب الدليل عن السُّنَّة على أحد المعنيين، فوجدنا سُنَّة الرسول تدل ألا واجب من الصلوات إلا خمس‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 2- 4‏]‏ التقدير، والله أعلم، أنه منصوب بإضمار فعل كأنه قال تعالى‏:‏ قم نصف الليل إلا قليلا، فعلم تعالى أن هذا القليل يختلف الناس فى تقديره على قدر أفهامهم وطاقتهم على القيام، فقال‏:‏ أو انقص من نصف الليل بعد إسقاط ذلك القليل قليلا أو زد عليه، وكأن هذا تخييرًا من الله تعالى، إرادة الرفق بخلقه والتوسعة عليهم‏.‏‏)‏ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 4‏]‏ أى اقرأه على ترسل، عن مجاهد‏.‏‏)‏ قَوْلاً ثَقِيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 5‏]‏ حلاله وحرامه، عن مجاهد‏.‏

وقيل‏:‏ العمل به، عن الحسن‏)‏ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 6‏]‏ بعد النوم، أى ابتداء عمله شيئًا بعد شىء وهو من نشأ إذا ابتدأ‏.‏

ابن عباس ومجاهد‏:‏ هى الليل كله‏.‏

ابن عمر وغيره‏:‏ هى ما بين المغرب والعشاء‏.‏‏)‏ أَشَدُّ وَطْئًا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 6‏]‏ أى أمكن موقعًا‏.‏

الأخفش‏:‏ أشد قيامًا‏.‏

قتادة‏:‏ أثبت فى الخير، وأشد للحفظ، للتفرغ بالليل‏.‏

وأصل الوطء الثقل، ومن قولهم‏:‏ اشتدت وطأة الشيطأن ومن قرأ‏:‏ ‏(‏وطاء‏)‏ فالمعنى أشد مهادًا للتصرف فى التفكر والتدبر، عن مجاهد، يواطئ السمع والبصر والقلب‏.‏‏)‏ وَأَقْوَمُ قِيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 6‏]‏ أى أثبت للقراءة، عن مجاهد‏.‏

قال بعضهم‏:‏ ولهذا المعنى فرض الله صلاة الليل بالساعات جزءًا من الليل لا جزءًا من القرآن، إرادة التنبيه على تفقهه وتدبره والعمل بالقلب، وأنه ليس بهذه الحروف وجريه على اللسان، وأن الثواب بمقدار تمام الساعات التى يقرأ فيها‏.‏‏)‏ سَبْحًا طَوِيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 7‏]‏ أى فراغاً، عن ابن عباس وغيره‏.‏

قال المهلب‏:‏ وحديث أنس يدل أن أعمال التطوع ليست منوطة بأوقات معلومة، وإنما هى على قدر الإرادة لها والنشاط فيها‏.‏

باب عَقْدِ الشَّيْطَانِ عَلَى قَافِيَةِ الرَّأْسِ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ الرَسُولَ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ عِنْدَ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلانَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ عَنِ الرَسُولَ فِى الرُّؤْيَا قَالَ‏:‏ ‏(‏أَمَّا الَّذِى يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفِضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قد فسر النبى صلى الله عليه وسلم معنى العقد وهو قوله‏:‏ ‏(‏عليك ليل طويل فارقد‏)‏ كأنه يقولها إذا أراد النائم الاستيقاظ إلى حزبه فيعتقد فى نفسه أنه بقيت من الليل بقية طويلة حتى يروم بذلك إتلاف ساعات ليله وتفويت حزبه، فإذا ذكر الله انحلت عقدة، أى علم أنه قد مر من الليل طويل وأنه لم يبق منه طويل، فإذا قام وتوضأ استبان له ذلك أيضًا وانحل ما كان عقد فى نفسه من الغرور والاستدراج، فإذا صلى واستقبل القبلة انحلت العقدة الثالثة، لأنه لم يصغ إلى قوله، ويئس الشيطان منه‏.‏

والقافية‏:‏ هى مؤخرة الرأس، وفيه العقل والفهم، فعقده فيه إثباته فى فهمه أنه بقى عليه ليل طويل‏.‏

‏(‏فيصبح نشيطًا طيب النفس‏)‏، لأنه مسرور بما قدم، مستبشر بما وعده الله من الثواب والغفران، وإذا لم يصل ‏(‏أصبح خبيث النفس‏)‏، أى مهمومًا بجواز كيد الشيطان عليه، و ‏(‏كسلان‏)‏ بتثبيط الشيطان له عما كان اعتاده من فعل الخير‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ورأيت لبعض من فَسَّرَ هذا الحديث، قال‏:‏ العقد الثلاث هى‏:‏ الأكل والشرب والنوم، وقال‏:‏ ألا ترى أن من أكثر الأكل والشرب أنه يكثر نومه لذلك، والله أعلم بصحة هذا التأويل وبما أراد صلى الله عليه وسلم من ذلك‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله فى حديث سمرة‏:‏ ‏(‏يأخذ القرآن فيرفضه‏)‏، يعنى يترك حفظ حروفه والعمل بمعانيه، فأما إذا ترك حفظ حروفه وعمل بمعانيه فليس برافض له، لكنه قد أتى فى الحديث أنه يحشر يوم القيامة أجذم أى مقطوع الحجة، والرافض له يثلغ رأسه وذلك لعقد الشيطان فيه، فوقعت العقوبة فى موضع المعصية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ينام عن الصلاة المكتوبة‏)‏، يعنى لخروج وقتها وفواته، وهذا إنما يتوجه إلى تضييع صلاة الصبح وحدها، لأنها هى التى تبطل بالنوم، وهى التى أكد الله المحافظة عليها، وفيها تجتمع الملائكة، وسائرُ الصلوات إذ ضُيعت فحملها محملها، لكن لهذه الفضل‏.‏

باب إِذَا نَامَ وَلَمْ يُصَلِّ بَالَ الشَّيْطَانُ فِى أُذُنِهِ

- فيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ، قَالَ‏:‏ ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَقَالَ‏:‏ مَا زَالَ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحَ مَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏بَالَ الشَّيْطَانُ فِى أُذُنِهِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏بال الشيطان فى أذنه‏)‏ على سبيل الإغياء من تحكم الشيطان فى العقد على رأسه بالنوم الطويل، وقال ابن مسعود‏:‏ كفى لامرئ من الشر أن يبول الشيطان فى أذنه‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ والعرب تقول‏:‏ بال فى كذا إذا أفسده، قال الفرزدق‏:‏ وإن الذى يسعى ليفسد زوجتى كساعٍ إلى أسد الشرى يستبيلها معناه‏:‏ يطلب مفسدتها‏.‏

باب الدُّعَاءِ فِى الصَّلاةِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ

وَقَالَ تعالى‏:‏ ‏{‏كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 17‏]‏ يَنَامُونَ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَة، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ‏:‏ مَنْ يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِى فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِى فَأَغْفِرَ لَهُ‏)‏‏.‏

قال ابن فورك‏:‏ حجة أهل البدع هذا الحديث وشبهه، وقالوا‏:‏ لا يمكن حمل شىء منه على تأويل صحيح من غير أن يكون فيه تشبيه، أو تحديد، أو وصف للرب تعالى بما لا يليق به، وقد ورد التنزيل، بمعنى هذا الحديث وهو قوله‏:‏ ‏(‏وجاء ربك والملك صفا صفا‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 22‏]‏، و‏{‏هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله فى ظلل من الغمام والملائكة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏، و‏{‏أتى الله بنيانهم من القواعد‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 26‏]‏‏.‏

ولا فرق بين الإتيان والمجئ والنزول إذا أضيف جميع ذلك إلى الأجسام التى يجوز عليها الحركة والنقلة التى هى تفريغ مكان زشغل غيره، فإذا أضيف ذلك إلى من لا يليق به الانتقال والحركة كان تأويل ذلك على حسب ما يليق بنعته وصفته عزَّ وجلَّ‏.‏

فمن ذلك أنا وجدنا لفظة النزول فى اللغة مستعملة على معانٍ مختلفة، فمنها النزول بمعنى الانتقال والتحويل كقوله‏:‏ ‏(‏وأنزلنا من السماء ماءً طهورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 48‏]‏، ومنها النزول بمعنى الإعلام كقوله‏:‏ ‏(‏نزل به الروح الأمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 193‏]‏، أى أعلم به الروحُ الأمين محمدًا، صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومنها النزول بمعنى القول فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سأنزل مثل ما أنزل الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 93‏]‏، أى سأقول مثل ما قال، ومنها النزول بمعنى الإقبال على الشىء، وذلك هو المستعمل فى كلامهم الجارى فى عرفهم، وهو أنهم يقولون‏:‏ نزل فلان من مكارم الأخلاق إلى دنيّها، أى أقبل إلى دنيها، ونزل قدر فلان عند فلان، أى انخفض‏.‏

ومنها النزول بمعنى نزول الحكم، من ذلك قولهم‏:‏ كنا فى خير وعدل حتى نزل بنا بنو فلان، أى حكمهم، وكل ذلك متعارف عند أهل اللغة، وإذا كانت هذه اللفظة مشتركة المعنى فينبغى حمل ما وصف به الرب تعالى من النزول على ما يليق به من بعض هذه المعانى‏.‏

إما أن يراد به إقباله على أهل الأرض بالرحمة والتنبيه الذى يلقى فى قلوب أهل الخير منهم، والزواجر التى تزعجهم إلى الإقبال على الطاعة، ويحتمل أن يكون ذلك فعلا يظهر بأمره، فيضاف إليه، كما يقال‏:‏ ضرب الأمير اللص، ونادى الأمير فى البلد، وإنما أمر بذلك، فيضاف إليه الفعل على معنى أنه عن أمره ظهر، وإذا احتمل ذلك فى اللغة لم ينكر أن يكون لله ملائكة يأمرهم بالنزول إلى السماء الدنيا بهذا النداء والدعاء، فيضاف إلى الله‏.‏

وقد روى هذا التأويل فى بعض طرق هذا الحديث، روى النسائى، قال‏:‏ حدثنا إبراهيم ابن يعقوب، حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبى، عن الأعمش، حدثنا أبو إسحاق، حدثنا أبو مسلم، عن الأغر، قال‏:‏ سمعت أبا هريرة، وأبا سعيد الخدرى يقولان‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله يمهل حتى يمضى شطر الليل الأول، ثم يأمر مناديًا ينادى يقول‏:‏ هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطى‏)‏‏.‏

وقد سئل الأوزاعى عن معنى هذا الحديث، فقال‏:‏ يفعل الله ما يشاء‏.‏

وهذه إشارة منه إلى أن ذلك فعل يظهر منه تعالى‏.‏

وقد روى حبيب، عن مالك، أنه قال فى هذا الحديث‏:‏ ينزل أمره ورحمته، وقد رواه غير حبيب عنه، روى محمد بن على البجلى بالقيروان، قال‏:‏ حدثنا جامع بن سوادة، قال‏:‏ حدثنا مطرف، عن مالك بن أنس، أنه سئل عن هذا الحديث، فقال‏:‏ ذلك تنزل أمره‏.‏

وقد سئل بعض العلماء عن حديث النزول، فقال‏:‏ تفسيره قول إبراهيم حين أفل النجم‏:‏ ‏(‏لا أحب الآفلين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 76‏]‏ فطلب ربا لا يجوز عليه الانتقال والحركات، ولا يتعاقب عليه النزول، وقد مدحه الله بذلك وأثنى عليه فى كتابه، فقال‏:‏ ‏(‏وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 75‏]‏، فوصفه لأنه بقوله هذا، موقن‏.‏

وفى حديث أبى هريرة أن آخر الليل أفضل للدعاء والاستغفار، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وبالأسحار هم يستغفرون‏}‏ ‏[‏الذرايات‏:‏ 18‏]‏ وروى محارب بن دثار، عن عمه‏:‏ أنه كان يأتى المسجد فى السحر فيمر بدار ابن مسعود فيسمعه‏:‏ اللهم إنك أمرتنى فأطعت، ودعوتنى فأجبت، وهذا السحر فاغفر لى‏.‏

فسئل ابن مسعود عن ذلك، فقال‏:‏ إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله‏:‏ ‏(‏سوف أستغفر لكم ربى‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 98‏]‏‏.‏

وروى الجريرى‏:‏ ‏(‏أن داود صلى الله عليه وسلم سأل جبريل أى الليل أسمع‏؟‏ فقال‏:‏ لا أدرى، غير أن العرش يهتز فى السحر‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أسمع‏)‏ يريد أنها أوقع للسمع، والمعنى‏:‏ أنها أولى بالدعاء وأرجى للاستجابة، وهذا كقول ضماد حين عَرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فقال‏:‏ سمعت كلامًا لم أسمع قط أسمع منه يريد أبلغ منه، ولا أنجع فى القلب‏.‏

عن الخطابى‏.‏

وترجم لحديث التنزل فى كتاب الدعاء، باب الدعاء نصف الليل، وسأذكر فيه معنى تخصيص الله ثلث الليل بإجابة الدعاء، إن شاء الله تعالى‏.‏

باب مَنْ نَامَ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَأَحْيَا آخِرَهُ

وَقَالَ سَلْمَانُ لأبِى الدَّرْدَاءِ‏:‏ نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَ‏:‏ قُمْ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صَدَقَ سَلْمَانُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ الأسْوَدِ، قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ عَائِشَةَ كَيْفَ كَانَتْ صَلاةُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ كَانَ يَنَامُ أَوَّلَهُ، وَيَقُومُ آخِرَهُ فَيُصَلِّى، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَثَبَ، فَإِنْ كَانَت بِهِ حَاجَةٌ اغْتَسَلَ وَإِلا تَوَضَّأَ وَخَرَجَ‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما كان يقوم آخره من أجل حديث التنزل، وهذا كان فعل السلف، روى الزهرى، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عبد القارى، قال‏:‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ الساعة التى تنامون فيها أعجب إلىّ من الساعة التى تقومون فيها‏.‏

وقال ابن عباس فى قيام رمضان‏:‏ ما تتركون منه أفضل مما تقومون فيه‏.‏

وفيه‏:‏ دليل أنه فى رجوعه من الصلاة إلى فراشه قد كان يطأ ويصبح جنبًا، ثم يغتسل، وقد كان لا يفعل ذلك‏.‏

باب قِيَامِ الرسول صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ فِى رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ قَالَتْ‏:‏ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ فِى رَمَضَانَ وَلا فِى غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّى أَرْبَعًا، فَلا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّى أَرْبَعًا، فَلا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّى ثَلاثًا، قَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا عَائِشَةُ، إِنَّ عَيْنَىَّ تَنَامَانِ، وَلا يَنَامُ قَلْبِى‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ مَا رَأَيْتُ الرسول صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِى شَىْءٍ مِنْ صَلاةِ اللَّيْلِ جَالِسًا، حَتَّى إِذَا كَبِرَ قَرَأَ جَالِسًا، فَإِذَا بَقِىَ عَلَيْهِ مِنَ السُّورَةِ ثَلاثُونَ أَوْ أَرْبَعُونَ آيَةً، قَامَ فَقَرَأَهُنّ، َ ثُمَّ رَكَعَ‏.‏

وقد تقدم اختلاف الآثار فى عدد صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل فى باب كيف كانت صلاته بالليل، وكم كان يصلى بالليل، فأغنى عن إعادته‏.‏

وقد اختلف السلف فى عدد الصلاة فى رمضان، فذكر ابن أبى شيبة، قال‏:‏ حدثنا يزيد ابن هارون، قال‏:‏ حدثنا إبراهيم بن عثمان، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يصلى فى رمضان عشرين ركعة والوتر، وروى مثله عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وأبى بن كعب، وبه قال‏:‏ الكوفيون والشافعى، إلا أن إبراهيم هذا هو جد بنى شيبة، وهو ضعيف، فلا حجة فى حديثه، والمعروف القيام بعشرين ركعة فى رمضان عن عمر وعلى‏.‏

وقال عطاء‏:‏ أدركت الناس يصلون ثلاثًا وعشرين ركعة، الوتر منها ثلاثًا‏.‏

وروى ابن مهدى عن داود بن قيس، قال‏:‏ أدركت الناس بالمدينة فى زمن عمر بن عبد العزيز، وأبان بن عثمان يصلون ستا وثلاثين ركعة، ويوترون بثلاث، وهو قول مالك وأهل المدينة‏.‏

وأما قول عائشة‏:‏ يصلى أربعًا فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم أربعًا، ثم ثلاثًا، فقد تقدم فى أبواب الوتر أن ذلك مرتب على قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صلاة الليل مثنى مثنى‏)‏ لأنه مفسر وقاض على المجمل، وقد جاء بيان هذا فى بعض طرق هذا الحديث، روى ابن أبى ذئب، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بالليل إحدى عشرة ركعة بالوتر، يسلم بين كل ركعتين‏.‏

وقيل فى قولها‏:‏ يصلى أربعًا، ثم أربعًا، أنه كان ينام بعد الأربع، ثم يصلى، ثم ينام بعد الأربع، ثم يقوم فيوتر بثلاث، فاحتج من قال ذلك بحديث الليث، عن ابن أبى مليكة، عن يعلى، عن أم سلمة أنها وصفت صلاة رسول الله بالليل وقراءته فقالت‏:‏ كان يصلى ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلى قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى، ثم يقوم فيوتر‏.‏

وقال أبو الحسن القابسى‏:‏ أما قول عائشة للنبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ تنام قبل أن توتر، فإنها توهمت أن الوتر بإثر العشاء لا يكون غيره على ما رأت من أبيها، لأنه كان يوتر بإثر العشاء، فلما أتت النبى ورأته يؤخر وتره إلى الوقت المرغب فيه رأت خلاف ما علمت من فعل أبيها، فسألته صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأخبرها أن عينيه تنامان ولا ينام قلبه وليس ذلك لأبيها، وهذه من أعلى مراتب الأنبياء، عليهم السلام، ولذلك قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏رؤيا الأنبياء وحى‏)‏ لأنهم يفارقون سائر البشر فى نوم القلب ويساوونهم فى نوم العين‏.‏

روى أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبى،- عليه السلام-، نام حتى سمع غطيطه، ثم صلى ولم يتوضأ، قال عكرمة‏:‏ كان رسول الله محفوظًا‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ من النوم‏.‏

قيل له‏:‏ كان يتوضأ لكل صلاة، ولا يبعد أن يتوضأ إذا خامر قلبه النوم واستولى عليه، وذلك فى النادر كنومه فى سفره عن صلاة الصبح، لِيَسُنَّ لأمته أن الصلاة لا يسقطها خروج الوقت وإن كان مغلوبًا بنوم أو نسيان‏.‏

وفى حديث عائشة الثانى قيامه صلى الله عليه وسلم بالليل‏.‏

قال المهلب‏:‏ ومعنى قيامه بالليل عند الركوع، والله أعلم، لئلا يخلى نفسه من فضل القيام فى آخر الركعة، وليكون انحطاطه إلى الركوع والسجود من القيام، إذ هو أبلغ وأشد فى التذلل والخضوع لله، عز وجل‏.‏

باب فَضْلِ الصَّلاةِ بَعْدَ الطُّهُورِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبِلال‏:‏ حَدِّثْنِى بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإسْلامِ، فَإِنِّى سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَىَّ فِي الْجَنَّةِ‏؟‏‏)‏ قَالَ‏:‏ مَا عَمِلْتُ عَمَلا أَرْجَى عِنْدِى أَنِّى لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِى أَنْ أُصَلِّىَ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه دليل أن الله يعظم المجازاة على ما ستر العبد بينه وبين ربه مما لا يطلع عليه أحد، ولذلك استحب العلماء أن يكون بين العبد وبين ربه خبيئة عمل من الطاعة يدخرها لنفسه عند ربه، ويدل أنها كانت خبيئة بين بلال وبين ربه أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يعرفها حتى سأله عنها، وفى سؤال النبى عن ذلك دليل على سؤال الصالحين عما يهديهم الله إليه من الأعمال المقتدى بهم فيها، ويمتثل رجاء بركتها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏دف نعليك‏)‏ قال‏:‏ وقال صاحب العين‏:‏ يقال‏:‏ دف الطائر إذا حرك جناحيه، ورجلاه فى الأرض‏.‏

باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي الْعِبَادَةِ

- فيه‏:‏ أَنَسِ، دَخَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَّارِيَتَيْنِ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا هَذَا الْحَبْلُ‏؟‏‏)‏ قَالُوا‏:‏ هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ به، فَقَالَ‏:‏ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ‏)‏‏.‏- فيه‏:‏ عَائِشَةَ قَالَتْ‏:‏ كَانَتْ عِنْدِى امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَدَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ هَذِهِ‏؟‏‏)‏ قُلْتُ‏:‏ فُلانَةُ، لا تَنَامُ بِاللَّيْلِ، تَذْكُر مِنْ صَلاتِهَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَهْ، عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنَ الأعْمَالِ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا‏)‏‏.‏

إنما يكره التشديد فى العبادة خشية الفتور وخوف الملل، ألا ترى قوله‏:‏ ‏(‏خير العمل ما دام عليه صاحبه وإن قل‏)‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعل عليكم فى الدين من حرج‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏ فكره صلى الله عليه وسلم الإفراط فى العبادة، لئلا ينقطع عنها المرء فيكون كأنه رجوع فيما بذله من نفسه لله، تعالى، وتطوع به، وقد تقدم معنى قوله‏:‏ ‏(‏فإن الله لا يمل حتى تملوا‏)‏ فى كتاب العلم، ونذكر منه هاهنا طرفًا، والمعنى أن الله لا يقطع الثواب عنكم حتى تقطعوا أنتم العمل به بالملل الذى هو من شأنكم، لأن الملل لا يجوز على الله ولا هو من صفاته، وإنما أخبر بالملل عنه تعالى للمساواة بين قسمى الكلام، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومكروا ومكر الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وقد اختلف السلف فى التعلق بالحبل فى النافلة عند الفتور والكسل، فذكر ابن أبى شيبة عن أبى حازم‏:‏ أن مولاته كانت فى أصحاب الصفة قالت‏:‏ وكانت لنا حبال نتعلق بها إذا فترنا ونعسنا فى الصلاة، فأتانا أبو بكر فقال‏:‏ اقطعوا هذه الحبال وافضوا إلى الأرض‏.‏

وقال حذيفة فى التعلق فى الصلاة‏:‏ إنما يفعل ذلك اليهود، ورخص فى ذلك آخرون، قال عراك بن مالك‏:‏ أدركت الناس فى رمضان تربط لهم الحبال يستمسكون بها من طول القيام‏.‏

وفى باب استعانة اليد فى الصلاة بعد هذا من كره الاعتماد على الشىء فى الصلاة ومن أجازه باب مَا يُكْرَهُ مِنْ تَرْكِ قِيَامِ اللَّيْلِ لِمَنْ كَانَ يَقُومُهُ

- فيه‏:‏ عَبْدُ اللَّه بْنُ عَمْرِو، قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ باللَّيْلِ وَتَصُومُ بالنَّهَارِ‏؟‏‏)‏، قُلْتُ‏:‏ إِنِّى أَفْعَلُ ذَلِكَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ عَيْنُكَ، وَنَفِهَتْ نَفْسُكَ، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ حَقًّا، وَلأهْلِكَ حَقًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أن من دخل فى طاعة الله وقطعها فإنه مذموم، وقد عاب الله قومًا بذلك فقال‏:‏ ‏(‏ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 27‏]‏ فاستحقوا الذم حين لم يفوا بما تطوعوا به، ولا رعوه حق رعايته، فصار رجوعًا منهم عنه، فلذلك لا ينبغى أن يدخل فى شىء من العبادة ويرجع عنها، بل ينبغى أن يرتقى المرء كل يوم فى درج الخير، ويرغب إلى الله أن يجعل خاتمة عمله خيرًا من أوله، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يحب من العمل إلا ما دام عليه صاحبه وإن قل‏.‏

فإن كان قطع العمل بمرض أو شغل وضعف عنه فلا لوم عليه، بل يرجى له من الله ألا يقطع أجره، فقد جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم أن المريض يكتب له أجر ما كان يعمله فى صحته، وفى كتاب الله ما يشهد لذلك قوله‏:‏ ‏(‏ثم رددناه أسفل سافلين‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 5‏]‏، يعنى بالهرم والضعف‏)‏ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 6‏]‏، أى غير مقطوع وإن ضعفوا عن العمل يكتب لهم أجر عملهم فى الشباب والصحة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إن لنفسك عليك حقًا‏)‏ يريد ما جعل الله، تعالى، للإنسان من الراحة المباحة واللذة فى غير محرم، فإن فى ذلك قوة على طاعة الله ونشاطًا إليها، وكذلك للأهل حق على الزوج أن يوفيهم حقوق الزوجية، وأن ينظر لهم فيما لابد لهم من أمور الدنيا والآخرة‏.‏

وقوله ‏(‏هجمت عينك‏)‏‏:‏ غارت، عن أبى عمرو الشيبانى‏.‏

وقال الأصمعى‏:‏ هجمت ونفهت‏:‏ أعيت، ويقال للمُعْيى‏:‏ نافه ومُنفَّه‏.‏

باب فَضْلِ مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى

- فيه‏:‏ عُبَادَةُ، قَالَ النَّبِىِّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ‏:‏ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ العلى العظيم، ثُمَّ قَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى، أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى، قُبِلَتْ صَلاتُهُ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ أَخًا لَكُمْ لا يَقُولُ الرَّفَثَ‏)‏، يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ رَوَاحَةَ‏:‏ وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا يَبِيتُ يُجَافِى جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الْفَجْرِ سَاطِعُ بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ‏:‏ رَأَيْتُ كَأَنَّ بِيَدِي قِطْعَةَ اِسْتَبْرَقٍ فَكَأَنِّى لا أُرِيدُ مَكَانًا مِنَ الْجَنَّةِ إِلا طَارَتْ إِلَيْهِ، وَرَأَيْتُ وكَأَنَّ اثْنَيْنِ أَتَيَانِى أَرَادَا أَنْ يَذْهَبَا بِى إِلَى النَّارِ، فَتَلَقَّاهُمَا مَلَكٌ، فَقَالَ‏:‏ لَمْ تُرَعْ، خَلِّيَا عَنْهُ‏.‏

وذكر الحديث‏.‏

قال المؤلف‏:‏ حديث عبادة شريف عظيم القدر، وفيه ما وعد الله عباده على التيقظ من نومهم لهجة ألسنتهم بشهادة التوحيد له والربوبية، والإذعان له بالملك، والاعتراف له بالحمد على جزيل نعمه التى لا تحصى، رطبة أفواهم بالإقرار له بالقدرة التى لا تتناهى، مطمئنة قلوبهم بحمده وتسبيحه وتنزيهه عما لا يليق بالإلهية من صفات النقص، والتسليم له بالعجز عن القدرة عن نيل شىء إلا به تعالى‏.‏

فإنه وعد بإجابة دعاء من بهذا دعاه، وقبول صلاة من بعد ذلك صلى، وهو تعالى لا يخلف الميعاد، وهو الكريم الوهاب فينبغى لكل مؤمن بلغه هذا الحديث أن يغتنم العمل به، ويخلص نيته لربه العظيم أن يرزقه حظا من قيام الليل، فلا عون إلا به، ويسأله فكاك رقبته من النار، وأن يوفقه لعمل الأبرار، ويتوفاه على الإسلام‏.‏

قد سأل ذلك الأنبياء الذين هم خيرة الله وصفوه من خلقه، فمن رزقه الله حظا من قيام الليل فليكثر شكره على ذلك، ويسأله أن يديم له ما رزقه، وأن يختم له بفوز العاقبة، وجميل الخاتمة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إن أخا لكم لا يقول الرفث‏)‏ وذكر قول ابن رواحة يدل أن حسن الشعر محمود كحسن الكلام، وتبين أن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه خيرٌ له من أن يمتلئ شعرًا‏)‏ أنه لا يراد به كل الشعر، وإنما المراد به الشعر الذى فيه الباطل والهجر من القول، لأنه صلى الله عليه وسلم قد نفى عن ابن رواحة بقوله هذه الأبيات، قول الرفث، وإذا لم تكن من الرفث فهى فى حَيِّزِ الحق، والحق مرغب فيه، مأجور عليه صاحبه‏.‏

وفى حديث ابن عمر أن قيام الليل ينجى من النار، وقد تقدم القول فيه فى باب فضل قيام الليل، وقال صاحب العين‏:‏ التعارّ‏:‏ السهر والتقلب على الفراش ليلا مع كلام، أخذه من عرار الطير وهو صوته‏.‏

باب الْمُدَاوَمَةِ عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ صَلَّى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ، ثُمَّ صَلَّى ثَمَان رَكَعَاتٍ، وَرَكْعَتَيْنِ جَالِسًا، وَرَكْعَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدَعْهُمَا أَبَدًا‏.‏

هذا الحديث يدل على فضل ركعتى الفجر وأنهما من أشرف التطوع، لمواظبته صلى الله عليه وسلم عليهما وملازمته لهما‏.‏

روى ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت‏:‏ ما رأيت رسول الله يسرع إلى شىء من النوافل إسراعه إلى ركعتى الفجر، ولا إلى غنيمة‏.‏

وروى قتادة، عن زرارة بن أبى أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة، قالت‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها‏)‏‏.‏

وقال أبو هريرة‏:‏ لا تدع ركعتى الفجر ولو طرقتك الخيل‏.‏

وقال عمر‏:‏ هما أحب إلى من حمر النعم‏.‏

وقال إبراهيم‏:‏ إذا صلى ركعتى الفجر ثم مات أجزأه من صلاة الفجر‏.‏

وقال على‏:‏ سألت النبى صلى الله عليه وسلم عن إدبار النجوم، فقال‏:‏ ‏(‏ركعتين بعد الفجر‏)‏ قال على وأدبار السجود‏:‏ ركعتين بعد المغرب‏.‏

وروى مثله عن عمر، وأبى هريرة‏.‏

واختلف العلماء فى الوقت الذى يقضيهما فيه من فاتته، فقالت طائفة‏:‏ يركعهما بعد صلاة الصبح، هذا قول‏:‏ عطاء وطاوس، ورواية عن ابن عمر، ورواية المزنى، عن الشافعى، وأبى ذلك مالك وأكثر العلماء، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس‏)‏‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ يقضيهما بعد طلوع الشمس، روى ذلك عن ابن عمر، والقاسم بن محمد، وهو قول‏:‏ الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، ورواية البويطى، عن الشافعى، وقال مالك، ومحمد بن الحسن‏:‏ يقضيهما بعد طلوع الشمس إن أحب، وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف‏:‏ لا يقضيهما من فاتته، وليسا بمنزلة الوتر‏.‏

واختلفوا فيمن لم يصلهما وأدرك الإمام فى صلاة الصبح أو أقيمت عليه، فقالت طائفة‏:‏ إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، روى ذلك عن عمر وابن عمر، وأبى هريرة، وبه قال‏:‏ الشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور‏.‏

وفيه قول ثان‏:‏ أنه يصليهما فى المسجد والإمام يصلى، روى ذلك عن ابن مسعود، وبه قال الثورى والأوزاعى، إلا أنهما قالا‏:‏ إن خشى أن تفوته الركعتان دخل مع الإمام، وإن طمع بإدراك الركعة الثانية صلاهما ثم دخل مع الإمام‏.‏

وقال أبو حنيفة مثله، إلا أنه قال‏:‏ لا يركعهما فى المسجد‏.‏

وقال مالك‏:‏ إن دخل المسجد فلا يركعهما وليدخل معه فى الصلاة، وإن كان خارج المسجد ولم يخف أن يفوته الإمام بركعة فليركعهما، وإن خاف أن تفوته الركعة الأولى فليدخل وليصل معه، ثم يصليهما إن أحب بعد طلوع الشمس‏.‏

باب الضِّجْعَةِ عَلَى الشِّقِّ الأيْمَنِ بَعْدَ رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ كَانَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأيْمَنِ‏.‏

ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الضجعة بعد ركعتى الفجر سُنَّة يجب بها العمل وممن كان يفعلها‏:‏ أبو موسى الأشعرى، ورافع بن خديج، ورواية ضعيفة عن ابن عمر ذكرها ابن أبى شيبة، وروى مثله عن ابن سيرين وعروة‏.‏

وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الضجعة إنما كان يفعلها للراحة من تعب القيام، وكرهوها، وممن كرهها من السلف‏:‏ ذكر ابن أبى شيبة، قال‏:‏ قال أبو الصديق الناجى‏:‏ رأى ابن عمر قومًا قد اضطجعوا بعد ركعتى الفجر، فأرسل إليهم فنهاهم، فقالوا‏:‏ نريد بذلك السُّنَّة، فقال ابن عمر‏:‏ ارجع إليهم فأخبرهم أنها بدعة‏.‏

وعن ابن المسيب قال‏:‏ رأى ابن عمر رجلا اضطجع بعد الركعتين فقال‏:‏ احصبوه‏.‏

وقال أبو مجلز‏:‏ سألت ابن عمر عنها، فقال‏:‏ يتلعب بكم الشيطان‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ ما بال أحدكم إذا صلى الركعتين يتمعك كما يتمعك الحمار‏.‏

وكرهها النخعى‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ لا تضطجع بعد الركعتين قبل الفجر، واضطجع بعد الوتر‏.‏

قال المهلب‏:‏ واضطجاعه صلى الله عليه وسلم بعد الركعتين إنما كان فى الغِبِّ، لأنه كان أكثر عمله أن يصليهما إذا جاءه المؤذن للإقامة‏.‏

باب مَنْ تَحَدَّثَ بَعْدَ رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ وَلَمْ يَضْطَجِعْ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ كَانَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى، فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِى، وَإِلا اضْطَجَعَ حَتَّى يُؤْذَنَ بِالصَّلاةِ‏.‏

قال المؤلف، رحمه الله‏:‏ هذا الحديث يبين أن الضجعة ليست بسُنَّة، وأنها للراحة، فمن شاء فعلها ومن شاء تركها، ألا ترى قول عائشة‏:‏ فإن كنت مستيقظة حدثنى وإلا اضطجع، فدل أن اضطجاعه صلى الله عليه وسلم إنما كان يفعله إذا عدم التحدث معها ليستريح من تعب القيام، وفى سماع ابن وهب قيل‏:‏ فمن ركع ركعتى الفجر، أيضطجع على شقه الأيمن‏؟‏ قال‏:‏ لا، يريد لا يفعله استنانًا، لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يجعله استنانًا، وكان ينتظر المؤذن حتى يأتيه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما وجه تركه صلى الله عليه وسلم الاستغفار حين كان يحدثها إذا كانت مستيقظة، وقد مدح الله، تعالى، المستغفرين بالأسحار‏؟‏‏.‏

فالجواب‏:‏ أن السحر يقع على ما قبل الفجر كما يقع على ما بعده ومنه قيل للسحور سحورًا، لأنه طعام فى السحر قبل الفجر، وقد كان صلى الله عليه وسلم أخذ بأوفر الحظ من قيام الليل والاستغفار، وقد جاء فى حديث التنزيل‏:‏ ‏(‏أن الله، تعالى، ينزل إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول‏:‏ من يدعونى فأستجيب له، من يسألنى فأعطيه، من يستغفرنى فأغفر له‏)‏ فذكر أن الاستغفار المندوب إليه المرجو بركة إجابته، هو قبل الفجر، وليس المستغفر ممنوعًا من أن يتكلم فى حال استغفاره بما به الحاجة إليه من إصلاح شأنه وعلم ينشره، ولا يخرجه ذلك من أن يسمى مستغفرًا‏.‏

واختلف السلف فى الكلام بعد ركعتى الفجر، فقال نافع‏:‏ كان ابن عمر ربما تكلم بعد ركعتى الفجر، وقال إبراهيم‏:‏ لا بأس أن يسلم ويتكلم بالحاجة بعد ركعتى الفجر، وعن الحسن وابن سيرين مثله‏.‏

وكره الكوفيون الكلام قبل صلاة الفجر إلا بخير، وكان مالك يتكلم فى العلم بعد ركعتى الفجر، فإذا سلم من الصبح لم يتكلم مع أحد حتى تطلع الشمس، قال مالك‏:‏ لا يكره الكلام قبل الفجر، وإنما يكره بعدها إلى طلوع الشمس‏.‏

وممن كان لا يرخص فى الكلام بعد ركعتى الفجر، قال مجاهد‏:‏ رأى ابن مسعود رجلا يتكلم بعد ركعتى الفجر، فقال‏:‏ إما أن تذكر الله وإما أن تسكت، وعن سعيد بن جبير مثله‏.‏

وقال إبراهيم‏:‏ كانوا يكرهون الكلام بعد ركعتى الفجر، وهو قول عطاء، وسئل جابر ابن زيد‏:‏ هل يفرق بين صلاة الفجر وبين الركعتين قبلها بكلام‏؟‏ قال‏:‏ لا، ألا أن يتكلم بحاجة إن شاء‏.‏

ذكر هذه الآثار ابن أبى شيبة، والقول الأول أولى بشهادة السُّنَّة الثابتة له، ولا قول لأحد مع السُّنَّة‏.‏

واختلفوا فى التنفل بعد طلوع الفجر، فكرهت طائفة الصلاة بعد الفجر إلا ركعتى الفجر، روى ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وابن المسيب، ورواية عن عطاء، وحجتهم حديث موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتى الفجر‏)‏ ويروى أيضًا من مرسلات ابن المسيب عن النبى صلى الله عليه وسلم وأجاز ذلك آخرون، روى هذا عن طاوس والحسن البصرى، ورواية عن عطاء، قالوا‏:‏ إذا طلع الفجر فَصَلِّ ما شئت، ذكر هذا عبد الرزاق‏.‏

باب مَا جَاءَ فِي التَّطَوُّعِ مَثْنَى مَثْنَى

وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عَمَّارٍ، وَأَبِى ذَرٍّ، وَأَنَسٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالزُّهْرِىِّ‏.‏

وقال يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأنْصَارِىُّ‏:‏ مَا أَدْرَكْتُ فُقَهَاءَ أَرْضِنَا إِلا يُسَلِّمُونَ فِى كُلِّ اثْنَتَيْنِ مِنَ النَّهَارِ‏.‏

- فيه‏:‏ جَابِر، قَالَ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ فِى الأمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ‏:‏ إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلِ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأمْرَ خَيْرٌ لِى فِى دِينِى وَمَعَاشِى وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، أَوْ قَالَ‏:‏ عَاجِلِ أَمْرِى وَآجِلِهِ، فَاقْدُرْهُ لِى، وَيَسِّرْهُ لِى، ثُمَّ بَارِكْ لِى فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأمْرَ شَرٌّ لِى فِى دِينِى وَمَعَاشِى وَعَاقِبَةِ أَمْرِى، أَوْ قَالَ‏:‏ فِى عَاجِلِ أَمْرِى وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّى، وَاصْرِفْنِى عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِىَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِى، قَالَ‏:‏ وَيُسَمِّى حَاجَتَهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّىَ رَكْعَتَيْنِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَسِ، صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ‏.‏

- وفيه ابْنِ عُمَرَ، قَالَ‏:‏ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِرَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ‏:‏ ‏(‏إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ وَالإمَامُ يَخْطُبُ، أَوْ قَدْ خَرَجَ، فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِى وَجْهِ الْكَعْبَةِ‏.‏

وقال أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ أَوْصَانِى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بِرَكْعَتَىِ الضُّحَى‏.‏

وقال عِتْبَانُ‏:‏ صَلَّى الرَسُولَ فى بيتى ركعتين‏.‏

واختلف الفقهاء فى التطوع بالليل والنهار كيف هو‏؟‏ فقالت طائفة‏:‏ هو مثنى مثنى، هذا قول‏:‏ ابن أبى ليلى، ومالك، والليث، والشافعى، وأبى ثور، وهو قول‏:‏ أبى يوسف، ومحمد فى صلاة الليل‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ أما صلاة الليل فإن شئت صليت ركعتين وإن شئت صليت أربعًا، وإن شئت صليت ستا، وإن شئت ثمانيًا، وكره أن يزيد على ذلك شيئًا‏.‏

قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد‏:‏ أما صلاة النهار فإن شئت صليت بتكبيرة ركعتين، وإن شئت أربعًا، وكرهوا أن يزيد على ذلك شيئًا، وحجة أبى حنيفة لقوله فى صلاة الليل حديث عائشة أنها قالت‏:‏ كان صلى الله عليه وسلم يصلى بالليل أربعًا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم أربعًا، ثم ثلاثًا‏.‏

فقال لهم أهل المقالة الأولى‏:‏ ليس فى حديث عائشة يصلى أربعًا، أن الأربع بسلام واحد، وإنما أرادت العدد فى قولها أربعًا، ثم أربعًا، ثم ثلاثًا، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صلاة الليل مثنى مثنى‏)‏ وهذا يقتضى ركعتين ركعتين بسلام بينهما على ما قدمناه فى باب كيف كانت صلاة الليل‏.‏

وقد رد الطحاوى على أبى حنيفة، وقال‏:‏ قد روى الزهرى، عن عروة، عن عائشة، أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم بين كل اثنتين منهن، قال‏:‏ وهذا الباب إنما يؤخذ من جهة التوقيف والاتباع لما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به، وفعله أصحابه من بعده، فلم نجد عنه من قوله، ولا من فعله أنه صلى الله عليه وسلم أباح أن يصلى بالليل بتكبيرة أكثر من ركعتين، وهذا أصح القولين عندنا‏.‏

وأما صلاة النهار فالحجة لأبى حنيفة ما رواه شعبة، عن عبيدة، عن إبراهيم، عن سهم ابن منجاب، عن قزعة، عن القَرْثَع، عن أبى أيوب الأنصارى، عن الرسول، قال‏:‏ ‏(‏أربع ركعات قبل الظهر لا تسليم فيهن تفتح لهن أبواب السماء‏)‏ وقال إبراهيم‏:‏ كان عبد الله يصلى قبل الجمعة أربعًا، وبعدها أربعًا، لا يفصل بينهن بسلام‏.‏

وروى عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلى بالليل ركعتين وبالنهار أربعًا‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ فالجواب أن حديث أبى أيوب إنما يدل على فضل الأربع إذا اتصلت وفعلت فى هذا الوقت، ولا يدل على أن أكثر من الأربع لا يكون أفضل منها إذا كانت منفصلة، لأنه صلى الله عليه وسلم قد يذكر فضل الشىء ويكون هناك ما لو قاله أو فعله لكان أفضل، ألا ترى أنه قال‏:‏ ‏(‏اتقوا النار ولو بشق تمرة‏)‏ أفترى أن ليس رطل تمرٍ أفضل من تمرة، فإنما نبّه بذكره على أربع ركعات على أن الأكثر يكون أفضل، فلو صلى عشرين ركعة يسلم فى كل ركعتين لكان أفضل من أربع متصلة، فسقط قولهم‏.‏

قال غيره‏:‏ وما أثبته البخارى من الروايات المتواترة عن الرسول فى صلاته ركعتين من طرق فى الأوقات المختلفة، منها قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين‏)‏ يدخل فى عمومه إذا دخل المسجد قبل الظهر، وفى جميع أوقات النهار والليل المباحة للتنفل‏.‏

وكذلك روى ابن عمر، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يصلى قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، فهذا كله يفسر حديث أبى أيوب أن الأربع التى حض عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الظهر إنما أراد اتصالهن ذلك الوقت، لا أَنَّهُ لا سلام بينهن، لما صح من صلاته صلى الله عليه وسلم قبل الظهر وبعدها ركعتين، فوجب رد ما خالف هذا المعنى إليه، والله الموفق‏.‏

وأما حديث جابر أن الرسول، قال‏:‏ ‏(‏إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين‏)‏ فإنها قصة السليك‏.‏

قال الأصيلى‏:‏ وخالف شعبة فيه أصحاب عمرو بن دينار سوى ابن جريج وحماد بن زيد وابن عيينة، فرووه عن عمرو، عن جابر، أن رجلا جاء إلى المسجد والنبى صلى الله عليه وسلم يخطب قال له‏:‏ ‏(‏أصليت‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ ‏(‏قم فاركع ركعتين‏)‏ قصة السليك، وكذلك روى أبو الزبير عن جابر، فانفرد شعبة بما لم يتابع عليه، ولم تكن زيادة زادها الحافظ على غيره، بل هى قصة منقلبة عن وجهها‏.‏

وقال يحيى بن معين‏:‏ أحق أصحاب عمرو بن دينار بحديثه سفيان بن عيينة‏.‏

باب الْحَدِيثِ بَعْدَ رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ

قد تقدم هذا الباب فلا معنى لتكراره‏.‏

باب تَعَاهُدِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَمَنْ سَمَّاهُمَا تَطَوُّعًا

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ لَمْ يَكُنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَىْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مِنْهُ تَعَاهُدًا عَلَى رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ‏.‏

العلماء متفقون على تأكيد ركعتى الفجر، إلا أنهم اختلفوا فى تسميتها، فذكر ابن أبى شيبة عن الحسن البصرى أنهما واجبتان، وذهبت طائفة من العلماء إلى أنهما سُنَّة، هذا قول أشهب، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وأَبَى كثير منهم أن يسميها سُنَّة، قال مالك فى المختصر‏:‏ ليستا بسُنَّة، وقد عمل بها المسلمون فلا ينبغى تركها، وذكر ابن المواز عن ابن عبد الحكم وأصبغ أنهما ليستا بسُنَّة، وهما من الرغائب‏.‏

والحجة لمن أوجبهما‏:‏ ما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قضاهما بعد طلوع الشمس يوم نام عن الصلاة لما قضى الفريضة ولم يأت عنه أنه قضى شيئًا من السنن بعد خروج وقتها غيرهما، وحجة من جعلهما سُنَّة‏:‏ مواظبة الرسول عليهما، وشدة تعاهده لهما، وأن النوافل تصير سننًا بذلك‏.‏

وحجة من لم يسمهما سُنَّة، قول عائشة‏:‏ لم يكن النبى صلى الله عليه وسلم على شىء من النوافل أشد تعاهدًا منه عليهما، فجعلتهما من جملة النوافل، وقد روى ابن القاسم عن مالك‏:‏ أن ابن عمر كان لا يتركهما فى السفر‏.‏

باب مَا يُقْرَأُ فِي رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ كَانَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى بِاللَّيْلِ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُصَلِّى إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ‏.‏

- وَقَالَتْ عَائِشَةَ‏:‏ كَانَ صلى الله عليه وسلم، يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الصُّبْحِ، حَتَّى إِنِّى لأقُولُ‏:‏ هَلْ قَرَأَ فِيهُمَا بِأُمِّ الْكِتَابِ‏.‏

اختلف العلماء فى القراءة فى الفجر على أربعة مذاهب، فقال الطحاوى‏:‏ قال قوم‏:‏ لا يقرأ فى ركعتى الفجر‏.‏

وقال آخرون‏:‏ يخفف القراءة فيهما بأم القرآن خاصة‏.‏

وروى هذا عن عبد الله بن عمرو بن العاص‏.‏

وهو قول مالك فى رواية ابن وهب، وعلى بن زياد، قال‏:‏ وهو الذى آخذ به فى خاصة نفسى‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ يخفف فيهما القراءة، ولا بأس أن يقرأ مع أم القرآن سورة قصيرة، رواه ابن القاسم، عن مالك فى المجموعة، وهو قول الشافعى‏.‏

وروى عن إبراهيم النخعى ومجاهد أنه لا بأس أن يطيل القراءة فيهما، ذكره ابن أبى شيبة‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ ربما قرأت فى ركعتى الفجر حزبى من القرآن وهو قول أصحابه، واحتج لهم الطحاوى، فقال‏:‏ لما كانت ركعتا الفجر من أشرف التطوع، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها‏)‏ كان أولى أن يفعل فيها أشرف ما يفعل فى التطوع من إطالة القراءة فيهما، وهو عندنا أفضل من التقصير، لأنه من طول القنوت الذى فضله رسول الله صلى الله عليه وسلم فى التطوع على غيره‏.‏

وأما من قال‏:‏ لا قراءة فيهما، فإنه احتج بحديثى هذا الباب، والحجة عليه ما رواه شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن، قال‏:‏ سمعت عمتى عمرة تحدث عن عائشة، أن رسول الله كان إذا طلع الفجر صلى ركعتين، أقول‏:‏ يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب‏؟‏ فهذا خلاف أحاديث عائشة الأُخر، لأنها أثبتت فى هذا الحديث قراءة أم القرآن، فذلك حجة على من نفى القراءة، وهذا الحديث حجة لمن قال‏:‏ يقرأ فيهما بأم القرآن خاصة، وقد يجوز أن يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب وغيرها، ويخفف القراءة حتى يقال على التعجب من تخفيفه‏:‏ هل قرأ فيهما بفاتحة الكتاب‏.‏

وحجة من قال‏:‏ يقرأ فيهما بأم القرآن وسورة قصيرة، ما رواه أبو نعيم، عن إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال‏:‏ رمقت النبى صلى الله عليه وسلم أربعًا وعشرين مرة يقرأ فى الركعتين قبل صلاة الغداة، وفى الركعتين بعد المغرب‏:‏ ‏(‏قل يا أيها الكافر ‏(‏، و‏)‏ قل هو الله أحد‏}‏‏.‏

وروى أبو وائل، عن عبد الله مثله، وقال‏:‏ ما أحصى ما سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ بذلك، وبه كان يأخذ ابن مسعود وذكره ابن أبى شيبة، وقد روى مثله من حديث قتادة عن أنس، ومن حديث جابر، عن النبى صلى الله عليه وسلم فى ركعتى الفجر خاصة‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وهذه الآثار حجة على أبى حنيفة ومن جوز تطويل القراءة فيهما، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه خلافها، ولا قياس لأحد مع وجود السُنَّة الثابتة، وقد ذكر لابن سيرين قول النخعى فقال‏:‏ ما أدرى ما هذا وكان أصحاب ابن مسعود يأخذون فى ذلك بحديث ابن عمر، وبحديث ابن مسعود من تخفيفه القراءة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وتخفيفه لهما، والله أعلم، لمزاحمة الإقامة، لأنه كان لا يصليهما فى أكثر أحواله حتى يأتيه المؤذن للإقامة، وكان يُغلس بصلاة الصبح‏.‏

باب التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ‏:‏ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، فَفِي بَيْتِهِ‏.‏

وَحَدَّثَتْنِي أُخْتِي حَفْصَةُ أَنَّ نَّبِىَّ الله كَانَ يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَعْدَ مَا يَطْلُعُ الْفَجْرُ، وَكَانَتْ سَاعَةً لا أَدْخُلُ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏سجدتين قبل الظهر‏)‏ الحديث، فإنه أراد ركعتين فعبر عن الركوع بالسجود، وهذا يبين ما روى فى صلاة الكسوف فى حديث عبد الله بن عمر، أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى حين كسفت الشمس ركعتين فى سجدة، وإنما أراد ركعتين فى ركعة على ما روته عائشة فى ذلك‏.‏

قال المهلب‏:‏ وتطوعه صلى الله عليه وسلم بهذه النوافل قبل الفرائض وبعدها، لأن أفضل الأوقات أوقات صلوات الفريضة، وفيها تفتح أبواب السماء للدعاء، ويقبل العمل الصالح فلذلك يحييها صلى الله عليه وسلم بالنوافل، وليس فى حديث ابن عمر التنفل قبل العصر‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وقد روى على عن الرسول‏:‏ أنه كان يصلى قبل العصر أربع ركعات يفصل بينها بسلام، وقد اختلف السلف فى ذلك فكان بعضهم يصلى أربعًا، وبعضهم يصلى ركعتين، وبعضهم لا يرى الصلاة قبلها، فممن كان يصلى أربعًا‏:‏ على بن أبى طالب، وقال إبراهيم‏:‏ كانوا يحبون أربعًا قبل العصر‏.‏

وممن كان يصلى ركعتين‏:‏ روى سفيان وجرير، عن منصور، عن إبراهيم‏:‏ قال كانوا يركعون الركعتين قبل العصر، ولا يرونها من السُّنَّة‏.‏

وممن كان لا يصلى قبلها شيئًا، روى قتادة عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يصلى قبل العصر شيئًا‏.‏

وقتادة عن الحسن مثل ذلك وروى فضيل، عن منصور، عن إبراهيم، أنه رأى إنسانًا يصلى قبل العصر فقال‏:‏ إنما العصر أربع‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والصواب عندنا أن الفضل فى التنفل قبل العصر بأربع ركعات، لصحة الخبر بذلك عن على، عن النبى صلى الله عليه وسلم حدثنى به موسى بن عبد الرحمن، قال‏:‏ حدثنا عبد الحميد الحمانى، عن مسعر، عن إبى إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن على، قال‏:‏ رأيت النبى صلى الله عليه وسلم صلى أربع ركعات قبل العصر‏.‏

فأما قول ابن عمر‏:‏ فأما الركعتان بعد المغرب والعشاء ففى بيته، فقد اختلف فى ذلك، فروى عن قوم من السلف منهم زيد بن ثابت، وعبد الرحمن بن عوف أنهما كانا يركعان الركعتين بعد المغرب فى بيوتهما‏.‏

وقال العباس بن سهل بن سعد‏:‏ لقد أدركت عثمان، وإنه ليسلم من المغرب فما أرى رجلا واحدًا يصليهما فى المسجد، كانوا يبتدرون أبواب المسجد فيصلونها فى بيوتهم‏.‏

وقال ميمون بن مهران‏:‏ كانوا يستحبون تأخير الركعتين بعد المغرب إلى بيوتهم، وكانوا يؤخرونها حتى تشتبك النجوم‏.‏

وروى عن طائفة أنهم كانوا يتنفلون النوافل كلها فى بيوتهم دون المسجد، روى عن عبيدة أنه كان لا يصلى بعد الفريضة شيئًا حتى يأتى أهله‏.‏

وقال الأعمش‏:‏ ما رأيت إبراهيم متطوعًا حياته فى مسجد إلا مرة صلى بعد الظهر ركعتين‏.‏

وكانت طائفة لا تتنفل إلا فى المسجد، روى عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلى سبحته مكانه، وكان أبو مجلز يصلى بين الظهر والعصر فى المسجد الأعظم‏.‏

وروى ابن القاسم، عن مالك، قال‏:‏ التنفل فى المسجد هو شأن الناس فى النهار، وبالليل فى بيوتهم، وهو قول الثورى‏.‏

وقال الطبرى به، وقال‏:‏ والحجة لهذا القول ما حدثنا به أحمد بن الحسن الترمذى، حدثنا محمد بن يوسف الفريابى، حدثنا إسرائيل، عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال، عن زِرٍّ، عن حذيفة، قال‏:‏ صليت مع الرسول العشاء الآخرة، ثم صلى حتى لم يبق فى المسجد واحدٌ، وقال‏:‏ حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، قال‏:‏ كان النبى، صلى الله عليه وسلم يصلى بعد المغرب ركعتين، ويصليهما حتى يتصدع أهل المسجد، فإنما كره الصلاة فى المسجد لئلا يرى جاهل عالمًا يصليها فيه فيراها فريضة، أو كراهة أن يخلى منزله من الصلاة فيه، أو حذرًا على نفسه من رياء أو عارض من خطرات الشيطان، فإذا سلم من ذلك فإن الصلاة فى المسجد حسنة‏.‏

وقد بين بعضهم عِلَّة كراهية من كرهه، من ذلك‏:‏ سفيان عن الأعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق، قال‏:‏ كنا نقرأ فى المسجد فنقوم فنصلى فى الصف‏.‏

قال عبد الله‏:‏ صلوا فى بيوتكم لا يرونكم الناس فيرونها سُنَّة‏.‏

والذى يقول‏:‏ إن حديث حذيفة وما رواه سعيد بن جبير، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صلاتكم فى بيوتكم إلا المكتوبة‏)‏ فهى صحاح كلها لا يدفع شىء منها، وذلك نظير ما ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يعمل العمل ليتأسى به فيه، ثم يعمل بخلافه فى حال أخرى ليعلم بذلك من فعله أن أمره بذلك على وجه الندب، وأنه غير واجب العمل به‏.‏